أبيات في مدح النفس: بين الاعتزاز بالذات وسموّ الكرامة

مدح النفس هو باب من أبواب الشعر العربي لطالما أثار الجدل بين التنزيه والانتقاد، بين الإعجاب والاتهام بالغرور. لكنه في جوهره، تعبير صادق عن ثقة الإنسان بذاته واستحقاقه لمكانة تليق به في مجتمعه وتاريخه وحاضره. ولئن ساد شعر الفخر والمدح في العصر الجاهلي والعباسي والأندلسي وحتى في العصور اللاحقة، فإن مدح النفس كان أحد أركان هذا الأدب، وقد عبّر من خلاله الشعراء عن الفروسية، الحكمة، النسب، المروءة، والكرم، وغيرها من الصفات التي تجعل الإنسان جديرًا بالإشادة.

هذا المقال يتناول موضوع “أبيات في مدح النفس” من حيث الجذور التاريخية، والأبعاد النفسية والثقافية، وعلاقتها بتكوين الهوية، مع عرض واسع لأجمل الأبيات التي قيلت في هذا الباب عبر مختلف العصور.

أولاً: مدح النفس في الثقافة العربية

مدح النفس في الثقافة العربية لم يكن أمرًا مستهجنًا في أصله، بل كان دليلاً على الثقة بالنفس ووسيلة لإثبات المكانة، لا سيما في بيئة قبلية كانت تقوم على التنافس في الشرف والكرم والقوة والفصاحة. لم يكن الإنسان العربي الجاهلي يمدح نفسه بدافع الغرور أو التعالي بقدر ما كان يؤسس لسيرته الذاتية في عالم لا يعترف إلا بالقوة والتميز.

قال عنترة بن شداد في مدح نفسه:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صممُ

ويقول كذلك:

الليل والخيل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

بهذه الأبيات، يرسم عنترة صورة الإنسان المكتمل الذي لا يُنكر فضله ولا يُخفي مهابته، والذي عرفه الزمان والمكان والجماد والإنسان.

ثانيًا: مدح النفس وأثره النفسي والاجتماعي

مدح النفس ليس مجرد ترف شعري، بل هو آلية نفسية لتعزيز الصورة الذاتية للفرد، وترسيخ احترامه لذاته في مجتمعه. في كثير من الأحيان، يصبح مدح النفس درعًا ضد النقد أو التهميش أو الانتقاص من القدرات، وهو وسيلة للتعبير عن التوازن النفسي الداخلي.

في علم النفس الإيجابي، يُعد الاعتراف بالإنجازات وتقدير الذات من العوامل الضرورية لبناء شخصية قوية ومرنة، وهذا ما تناغم مع ما عبّر عنه الشعر العربي في مدح النفس. فالشاعر حين يقول:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كاملُ

فهو يعبّر عن إدراك عميق بقيمة الذات، وعن إدراكه أن انتقادات الحاسدين ما هي إلا دليل نجاح وتفوّق.

ثالثًا: مدح النفس في الشعر الجاهلي

الشعر الجاهلي يُعد أكثر الحقول التي ازدهر فيها مدح النفس. كانت القصائد تبدأ غالبًا بالغزل أو الوقوف على الأطلال، ثم ينتقل الشاعر إلى الفخر بنفسه وبقومه. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما قاله زهير بن أبي سلمى:

ومن لا يصانِعْ في أمورٍ كثيرةٍ

يُضَرَّسْ بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ

ومن يجعل المعروفَ من دون عرضه

يفره، ومن لا يَذُدْ عن حوضه يهدمِ

ويمدح نفسه في نفس السياق على الحكمة والحصافة في اتخاذ القرارات، مما يدل على نضج عقلي ورؤية فلسفية في الحياة.

رابعًا: مدح النفس عند المتنبي

المتنبي هو الشاعر الذي رفع مدح النفس إلى مستوى لم يسبقه إليه أحد، حتى صار اسمه مرادفًا للفخر والاعتزاز بالذات. كان مدحه لنفسه أداة لتجسيد طموحه الإمبراطوري، ورؤيته النرجسية المتعالية أحيانًا، ولكن أيضًا لتأكيد قيم مثل الشجاعة، الحكمة، والسمو الأخلاقي.

من أشهر أبياته:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

ويقول أيضًا:

أنا تربُ الندى وربُ القوافي

وسِنانُُ الغواني وبأسُُ الرجالِ

وغيرها من الأبيات التي جسّدت إنسانًا يرى في ذاته محورًا للعظمة الإنسانية، دون أن يفقد البعد الفني والجمالي في التعبير.

خامسًا: مدح النفس في الأدب الأندلسي والعباسي

لم يغب مدح النفس عن الشعر في العصور اللاحقة، بل انتقل من البُعد القبلي إلى البُعد الحضاري، وأصبح تعبيرًا عن الفروسية والعلم والمكانة السياسية. في الأندلس، مثلاً، عبّر الشعراء عن التفوق العلمي والمعرفي بالإضافة إلى الفروسية، كما نلاحظ عند ابن زيدون:

إنّي ذكرتك بالزهراء مشتاقًا

والأفق طلقٌ ومرأى الأرض قد راقا

وإن كان هذا البيت في الغزل، فإن شخصيته في ديوانه تجسد الاعتزاز بالذات المستند إلى الثقافة والبيئة الراقية.

أما في العصر العباسي، فقد تأثر الشعر بتيارات التصوف، فتحوّل مدح النفس أحيانًا إلى مدح للذات الروحية أو “الهوية العليا”، كما عند الحلاج الذي قال:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

سادسًا: مدح النفس في الشعر الصوفي والفلسفي

في السياق الصوفي، مدح النفس لم يعد فخرًا بالصفات الدنيوية، بل ارتقى ليعبر عن التجلي الإلهي في ذات الإنسان، وتحوّل إلى أداة للاتحاد مع المطلق. من الأمثلة البارزة، أبيات ابن الفارض التي تمجّد الذات المؤمنة:

أنا الحقُّ وذاتي ذاتُ مَن أنا عبدُه

وكلُّ صفاتي صفاتُ من له عبدُ

في هذا السياق، لم يعد مدح النفس مدحًا للفرد بقدر ما هو تعبير عن تجليات الألوهية في قلب العارف بالله.

سابعًا: مدح النفس في العصر الحديث

في الشعر الحديث، خفّ وهج مدح النفس الصريح لصالح التعبير عن الأنا المنكسرة أو المتأملة أو الباحثة عن المعنى في عالم مليء بالتناقضات. ومع ذلك، لا تزال بعض النماذج المعاصرة تُبرز الكبرياء الفردي بوسائل جديدة، منها شعر محمود درويش الذي قال:

أنا من هاهنا، ولست هناك

وأرفض اسمي إن كان يرضي العدوّ

وفي شعر أمل دنقل، نجد تمجيدًا للذات الثائرة، كما في قصيدة “لا تصالح”:

أنا إنْ متّ، فَأعْلنْ

أني قد سرتُ إلى حتفي… رافعًا رأسي

ثامنًا: بين الفخر والتواضع: هل يتعارضان؟

في التراث العربي، لا يتعارض مدح النفس مع التواضع الحقيقي، بل إن مدح النفس قد يكون شهادة واقعية تعززها المواقف. الفخر في الشعر لا يُقصد به دائمًا التفاخر، بل أحيانًا يكون وسيلة للبقاء في الذاكرة، ولحماية الكرامة والهوية من التلاشي.

إن الشاعر حين يفتخر بأنه كريم، شجاع، حكيم أو عادل، فهو لا يخلق صورة زائفة، بل يؤكد قيماً تربّت عليها الأجيال. التواضع لا يعني إنكار الفضل، وإنما احترامه دون امتهان الآخرين.

تاسعًا: أجمل أبيات مدح النفس في الشعر العربي

فيما يلي جدول يضم نماذج مختارة من أبيات مدح النفس من عصور مختلفة:

عاشرًا: أثر أبيات مدح النفس في تشكيل الهوية الثقافية

أبيات مدح النفس تركت أثرًا بالغًا في تشكيل الوعي الجمعي العربي، فهي لم تكتف بإبراز الذات الفردية، بل ساهمت في بناء صورة الإنسان العربي المثالي: شجاع، كريم، فصيح، معتز بأصله وفعله. وهذا النوع من الشعر ساهم في ترسيخ القيم الكبرى التي سادت المجتمعات العربية على مر العصور.

لقد استخدمها الحكام لتكريس الشرعية، والمفكرون لتأكيد التفوق الحضاري، والجنود لبثّ الحماسة في القلوب، والنساء في بعض الحالات لإبراز التحدي والتفوق رغم القيود.

المراجع

1. ديوان المتنبي، تحقيق الدكتور عبد الواحد وافي

2. الشعر الجاهلي: قضاياه الفنية والموضوعية، للدكتور ناصر الدين الأسد